الحياة رحلة شاقة، حافلة بالمتاعب والآلام، ولا يسلم امرؤ فيها من تجرع لون أو ألوان من غصصها ، ومكابدة آلامها وإن ولد وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقولون .
وقد أشار القرآن إلى ذلك حين قال: (لقد خلقنا الإنسان في كبد ) . (البلد 4).
وأهل الإيمان أكثر تعرضاً لبلاء الدنيا من غيرهم ، نظراً لخطورة مطلبهم ، من ناحية، وكثرة من يعارضهم ويقطع عليهم طريقهم من ناحية أخرى.
حتى ورد في بعض الآثار:-
[المؤمن بين خمس شدائد:- مسلم يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله ، وشيطان يضله ، ونفس تنازعه ] .
وثبت في الحديث:- أن [ أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ] .
لهذا كان الناس - كلُ الناس - في حاجة إلى واحات في طريقهم تخفف عنهم بعض عناء رحلة الحياة، وكان لا بد لهم من أشياء يروحون بها أنفسهم، حتى
( يضحكوا ويفرحوا ويمرحوا)، ولا يغلب عليهم( الغم والحزن والنكد)، فينغص عليهم عيشهم، ويكدر عليهم صفوهم.
من تلك الواحات:-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفكاهة والمزح ، وكل ما يستخرج الضحك من الإنسان ، ويطارد الحزن من قلبه، والعبوس من وجهه، والكآبة من حياته.
فهل يرحب الدين بهذا الفن "الكوميدي" أو يضيق به ؟ هل يحله أو يحرمه ؟
الفكاهة والمرح في واقع المسلمين:-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولقد رأيت الناس - بفطرتهم ، وعلى قدر ما سمحت به إمكاناتهم، وفي ضوء
ما عرفوه من سماحة دينهم - قد ابتكروا ألواناً من الوسائل والأدوات التي تقوم بوظيفة الترويح والإضحاك لهم .
من ذلك:-
ـــــــــــــ
"النكت" التي برع فيها المصريون ، واشتهروا بها بين الشعوب ، وهي أنواع مختلفة ،ولها مهمات متعددة ، ومنها:- " النكت السياسية " التي تهزأ بالحكام وأعوانهم ، وخصوصاً في أوقات التسلط والاستبداد السياسي.
ولا يكاد يجلس الناس بعضهم إلى بعض إلا حكوا من هذه النكت ما يضحكهم ويسرِّي عنهم بعض ما يعانون، أحياناً يسندونها إلى أسماء معروفة، مثل جحاً، أو أبي نواس، أو غيرهما، وأحياناً لا ينسبونها إلى معين.
وهناك أناس لا يقتصرون على حكاية النكت عن غيرهم، بل هم ينشئون نكتاً على البديهة، وهذا شأن الشخصيات الفكهة ، مثل "أشعب" قديماً ، ومثل الشيخ "عبد العزيز البشري" حديثاً في مصر.
وكانت في مصر بعض المجلات المتخصصة في هذا اللون، أشهرها مجلة "البعكوكة".
ويلحق بذلك فن "القفشات" وما يسميه المصريون " الدخول في قافية " وهو لون من استخدام المجاز والتورية حول موضوع واحد، يتطارح فيه الطرفان .
ومن ذلك:- ألوان من الألعاب التي تدعو إلى الضحك والمرح ، مثل لعبة "الأراجوز" ، ومثله "خيال الظل" الذي كان يعتبر نوعاً من التمثيل الشعبي الفكاهي .0000
ومن ذلك:- الألغاز والأحاجي، أو ما يسمى في لغة العامة " الفوازير " .
ومن ذلك:- القصص الفكاهية ، أو ما يسميه العوام "الحواديت" المسلية والمرفهة.
ومن ذلك:- "الأمثال الشعبية" التي كثيراً ما تتضمن أفكاراً أو تعبيرات تبعث على الضحك والمرح.
إلى غير ذلك من الألوان، التي تخترعها الشعوب بوساطة فنانين معروفين أو مجهولين غالباً، ملائمة لكل بيئة وما يسودها من قيم ومفاهيم ، وما تمر به من ظروف وأحوال.
وكل عصر يضيف أشياء جديدة، ويطور الأشياء القديمة، وقد يستغنى عن بعضها.
كما نرى في عصرنا فن "الكاريكاتير" الذي حوّل النكتة من مجرد كلمة تقال إلى صورة معبرة، مصحوبة ببعض الكلام، أو غير مصحوبة.
وقد سئلت عن موقف الدين من الضحك والمرح والفكاهة ، نظراً لما يبدو على بعض المتدينين من العبوس والتجهم فيكادون لا يضحكون ، ولا يمزحون ، حتى حسب بعض الناس أن هذه هي طبيعة الدين والتدين.
وكان جوابي:-
ـــــــــــــــــــــــ
أن الضحك من خصائص الإنسان، فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
ولهذا قيل:- الإنسان حيوان ضاحك ، ويصدق القول هنا:- أنا أضحك، إذا أنا إنسان .
والإسلام - بوصفه دين الفطرة - لا يُتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلى الضحك والانبساط، بل هو على العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائله باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي
لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوة المسلمين في ذلك هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقد كان - برغم همومه الكثيرة والمتنوعة - يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت(رضى الله عنه)، وقد طُلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال:-
[ كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، قال:-
فكل هذا أحدثكم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ ]. [رواه البيهقي] .
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس.
وقد رأيناه في بيته - (صلى الله عليه وسلم) - يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع
إلى أقاصيصهن ، كما في حديث أم زرع الشهير في (صحيح البخاري) .
وكما رأينا في تسابقه مع عائشة (رضي الله عنها)، حيث سبقته مرة، وبعد مدة تسابقا فسبقها، فقال لها:- هذه بتلك!
وقد روى أنه(صلى الله عليه وسلم) وطأ ظهره لسبطيه الحسن والحسين، في طفولتهما ليركبا، ويستمتعا دون تزمت ولا حرج، وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال:- نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة والسلام: [ ونِعم الفارسان هما ] !.
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له:- ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها:- [يا أم فلان ، إنّ الجنة لا يدخلها عجوز ] ! فبكت المرأة ، حيث أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها:- أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزاً ، بل شابة حسناء ، وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة:-
(إنا أنشأناهن إنشاءً* فجعلناهن أبكاراً* عُرباً أتراباً) .
[ الواقعة 35-37 والحديث أخرجه الترمذي] .
وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام:-
[لا أحملك إلا على ولد الناقة] ! فقال:- يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة؟! - انصرف ذهنه إلى الحُوار الصغير - فقال:- [ وهل تلد الإبل إلا النوق ؟ ] .
[رواه الترمذي] .
وقال زيد بن أسلم:- إن امرأة يقال لها( أم أيمن) جاءت إلى النبي
(صلى الله عليه وسلم) فقالت: إن زوجي يدعوك، قال:- [ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض] ؟ قالت: والله ما بعينه بياض! فقال: [بلى إنّ بعينه بياضاً] فقالت:- لا والله، فقال (صلى الله عليه وسلم):- [ ما من أحد إلا بعينه بياض ].
[رواه ابن أبي الدنيا] ، وأراد به البياض المحيط بالحدقة.
وقال أنس:- كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير، وكان رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) يأتيهم ويقول: [يا أبا عمير ما فعل النُّغَير؟].
[متفق عليه] لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور.
وقالت عائشة (رضي الله عنها)؛ كان عندي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة - دقيق يطبخ بلبن أو دسم - وجئت به ، فقلت لسودة:- كلي ، فقالت:- لا أحبه ، فقلت:- والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك،
فقالت:- ما أنا بذائقته ، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً منه فلطخت به وجهها، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) ركبتيه لتستقيد مني، فتناولت من الصفحة شيئاً فمسحت به وجهي! وجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يضحك. [ رواه أبو يعلى ].
وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميماً قبيحاً، فلما بايعه النبي
(صلى الله عليه وسلم) قال:- إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء - وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب - أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها ! وعائشة جالسة تسمع ، فقالت:- أهي أحسن أم أنت ؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميماً.
وكان (صلى الله عليه وسلم) يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس ، وخصوصاً في المناسبات مثل الأعياد والأعراس .
ولما أنكر الصديق أبو بكر(رضي الله عنه) غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له:-(صلى الله عليه وسلم) [ دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد ] !
وفي بعض الروايات:- [حتى يعلم يهود أنّ في ديننا فُسحة].
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول:-(صلى الله عليه وسلم) [ دونكم يا بني أرفدة] .
وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأساً ولا حرجاً.
واستنكر يوماً أن تُزف فتاة إلى زوجها زفافاً صامتاً، لم يصحبه لهو ولا غناء،
وقال:-(صلى الله عليه وسلم) [هلاّ كان معها لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو،
أو الغزل] .
وفي بعض الروايات:- [ هلاّ بعثتم معها من تغني وتقول:- أتيناكم أتيناكم … فحيونا نحييكم ] .
وكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون ، اقتداءً بنبيهم (صلى الله عليه وسلم)واهتداءً بهديه ، حتى أن رجلاً مثل عمر بن الخطاب(رضى الله عنه) - على ما عُرف عنه من الصرامة والشدة - يُروى عنه أنه مازح جارية له، فقال لها:- خلقني خالق الكرام ، وخلقك خالق اللئام! فلما رآها ابتأست من هذا القول ، قال لها مبيناً:- وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟!
وقد عُرف بعضهم بذلك في حياته (صلى الله عليه وسلم)، وأقره عليه، واستمرعلى ذلك من بعده ، وقبله الصحابة ، ولم يجدوا فيه ما ينكر ، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم المتدينين أشد الإنكار ،وعدوا فاعلها
من الفاسقين أو المنحرفين !
من هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى الضحك والمزاح:-
النعيمان بن عمر الأنصاري (رضي الله عنه) ، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة .
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة ، وشهد بدراً وأحداً ، والخندق ، والمشاهد كلها.
روى عنه الزبير بن بكار عدداً من النوادر الطريفة في كتابه "الفكاهة والمرح" نذكر بعضاً منها…
قال:- وكان لا يدخل المدينة طُرفة إلا اشترى منها، ثم جاء بها إلى النبي
(صلى الله عليه وسلم) فيقول:- هذا أهديته لك ، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها ، أحضره إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قائلا:-أعط هذا ثمن متاعه، فيقول:-
" أو لم تهده لي " ؟ فيقول:- إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله! فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه.
وأخرج الزبير قصة أخرى من طريق ربيعة بن عثمان قال:- دخل أعرابي على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري:- لوعقرتها فأكلناها، فإنّا قد قرمنا إلى اللحم ؟ ففعل ، فخرج الأعرابي وصاح : واعقراه يا محمد! فخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال:- "من فعل هذا"؟ فقالوا:- النعيمان ، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى النبي
(صلى الله عليه وسلم) حيث هو فأخرجه فقال له:-"ما حملك على ما صنعت ؟
قال:- الذين دلوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال:- فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك ، ثم غرمها للأعرابي.
وقال الزبيرأيضاً:- حدثني عمي عن جدي قال:- كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة ، فقام في المسجد يريد أن يبول ، فصاح به الناس:- المسجدَ المسجدَ ، فأخذه نعيمان بن عمرو بيده، وتنحى به، ثم أجلسه في ناحية أخرى من المسجد فقال له:- بل هنا . قال : فصاح به الناس فقال:- ويحكم ، فمن أتى بي إلى هذا الموضع ؟! قالوا:- نعيمان ،قال: أما إن لله عليّ إن ظفرتُ به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت! فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يوماً، وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان؟ قال: نعم، قال: فأخذه بيده حتى أوقفه على عثمان ، وكان إذا صلى لا يلتفت فقال: دونك هذا نعيمان ، فجمع يده بعصاه، فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين ! فذكر بقية القصة.
ومن الطرائف أن صحابياً آخر من أهل الفكاهة والمزاح، استطاع أن يوقع نعيمان في بعض ما أوقع فيه غيره من " المقالب " كما في قصة سويبط بين حرملة معه ، وكان ممن شهد بدراً أيضاً ، قال ابن عبد البر في " الاستيعاب" في ترجمة سويبط رضي الله عنه، وكان مزاحاً يفرط في الدعابة، وله قصة ظريفة مع نعيمان وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم ، نذكرها لما فيها من الظرف ، وحسن الخُلق .
وروي عن أم سلمة(رضى الله عنها) قالت:- خرج أبو بكر الصديق
(رضي الله عنه) في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي (صلى الله عليه وسلم) بعام ، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة ، وكانا قد شهدا بدراً، وكان نعيمان على الزاد، فقال له سويبط - وكان رجلاً مزّاحاً - : " أطعمني فقال : لا ، حتى يجيء أبو بكر
(رضي الله عنه)، فقال: أما والله لأغيظنك، فمروا بقوم فقال لهم سويبط، تشترون مني عبداً ؟ قالوا : نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا عليّ عبدي ، قالوا : بل نشتريه منك ، قال:- فاشتروه منه بعشر قلائص ، قال : فجاؤوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً،
فقال نعيمان:-
إن هذا يستهزىء بكم، وإني حر ، لست بعبد ، قالوا : قد أخبرنا خبرك، فانطلقوا به، فجاء أبو بكر (رضي الله عنه) ، فأخبره سويبط فأتبعهم ، فرد عليهم القلائص وأخذه، فلما قدموا على النبي (صلى الله عليه وسلم) أخبروه قال:-فضحك النبي
(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه منها حولاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· موقف المتشددين:-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا ريب أن هناك من الحكماء والأدباء والشعراء من ذم المزاح، وحذّر من سوء عاقبته، ونظر إلى جانب الخطر والضرر فيه، وأغفل الجوانب الأخرى.
ولكن ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)وأصحابه أحق أن يُتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال.
وقد قال لحنظلة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله
(صلى الله عليه وسلم)، واتهم نفسه بالنفاق: [يا حنظلة؛ لو دمتم على الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ، وهذه هي الفطرة، وهذا هو العدل].
روى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:-لم يكن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متحزقين ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون .
والتحزق _ كما يقول الإمام الخطابي:- التجمع وشدة التقبض .
وفي النهاية لابن الأثير:- متحزقين:- أي منقبضين ومجتمعين.
وسئل ابن سيرين عن الصحابة : هل كانوا يتمازحون؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر.
وبهذا يكون موقف أولئك النفر من المتدينين أو المتحمسين للدين، وعبوسهم وتجهمهم الذي ظنه البعض من صميم الدين، لا يمثل حقيقة الدين في شيء، ولا يتفق مع هدي الرسول الكريم وأصحابه.
إنما يرجع إلى سوء فهمهم للإسلام، أو لطبيعتهم الشخصية، أو لظروف نشأتهم وتربيتهم.
وعلى كل حال، لا يجهل مسلم أن الإسلام لا يؤخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس، يخطئون ويصيبون، والإسلام حُجة عليهم، وليسوا هم حُجة على الإسلام، إنما يؤخذ الإسلام من القرآن والسنة الثابتة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· حدود المشروعية في الضحك والمزاح:-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الضحك والمرح والمزاح أمر مشروع في الإسلام كما دلت على ذلك النصوص القولية، والمواقف العملية للرسول الكريم وأصحابه صلى الله عليه وسلم .
وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلى شيء من الترويح يخفف عنها لأواء الحياة وقسوتها، وتشعب همومها وأعبائها.
كما أن هذا الضرب من اللهو والترفيه يقوم بمهمة التنشيط للنفس، حتى تستطيع مواصلة السير والمضي في طريق العمل الطويل، كما يريح الإنسان دابته في السفر، حتى لا تنقطع به.
فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها في الأصل، ولكنها مقيدة بقيود وشروط لا بد أن تُراعى.
أولها:- ألا يكون الكذب والاختلاق أداة الإضحاك للناس، كما يفعل بعض الناس
في أول إبريل - نيسان - فيما يسمونه "كذبة إبريل".
ولهذا قال (صلى الله عليه وسلم):-
[ويل للذي يُحدث فيكذب، ليُضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له ].
[رواه أبو داود والترمذي].
وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.
ثانياً:- ألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي.
قال تعالى:-(يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءًٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفُسوق بعد الإيمان) . (الحجرات 11) .
وجاء في صحيح مسلم:-[ بحسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ] .
وذكرت عائشة أمام النبي (صلى الله عليه وسلم) إحدى ضرائرها، فوصفتها بالقصر تعيبها به، فقال:-[ يا عائشة ، لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته],
قالت:- وحكيت له إنساناً - أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك -
فقال:-
[ ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا ] . [رواه أبو داود والترمذي] .
ثالثاً:- ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم.
فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد
(صلى الله عليه وسلم) ، أنهم كانوا يسيرون مع النبي(صلى الله عليه وسلم) فنام رجل منهم ، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ، ففزع فقال رسول الله
(صلى الله عليه وسلم):-[ لا يحل لرجل أن يروِّع مسلماً ] .
وعن النعمان بن بشير(رضى الله عنه) قال: كنا مع رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) في مسير، فخفق رجل على راحلته - أي نعس - فأخذ رجل سهماً من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):-
[لا يحل لرجل أن يروع مسلماً] (رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات) .
والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك كان يمازحه.
وقد جاء في الحديث الآخر:- [لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً] .
(رواه الترمذي وحسّنه) .
رابعاً:-ألا يهزل في موضع الجِد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال، والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب.
ومن ممادح الشعراء:-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا جدّ عند الجِد أرضاك جِده وذو باطل إن شئت ألهاك باطلُه!
والباطل هنا يقصد به اللهو والمرح.
وقال آخر:-
أهازلُ حيث الهزلُ يَحسُنُ بالفتى وإني إذا جدّ الرجال لَذو جِدّ!
وروى الأصمعي أنه رأى امرأة بالبادية تصلي على سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرغت، وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزين، فقال لها:- أين هذه من تلك! فأنشدت
تقول:-ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب!
قال:- فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له.
وقد عاب الله تعالى على المشركين أنهم كانون يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم أن يبكوا ، فقال تعالى:-( أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون* وأنتم سامدون ) . (النجم 59-61) .
خامساً:- أن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة ، ويرضاه العقل الرشيد ، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل .
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة ، فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي : " ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب " فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة .
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي:- "ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة.
وقد ورد عن علي (رضي الله عنه) قوله: "أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح".
وهو قول حكيم، يدل علي عدم الاستغناء عن المزح، كما يدل علي ضرر الإفراط فيه.
والمبالغة هي التي يخشي من ورائها الإلهاء عن الأعباء، أو تجريء السفهاء، أو إغضاب الأصدقاء، ولعل هذا المراد من حديث "لا تمار أخاك ولا تمازحه" رواه الترمذي.
فالمبالغة في المزاح كالمماراة، كلتاهما تؤدي إلي إيغار الصدور.
وقال سعيد بن العاص لابنه: "اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب البهاء، ويجريء عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحش المخالطين".
وخير الأمور هو الوسط دائمًا وهو نهج الإسلام وخصيصته الكبري، ومناط فضل أمته علي غيرها. وهو الصراط المستقيم الذي ندعو الله أن يهدينا إليه، ويثبتنا عليه في الأقوال والآراء والأعمال والمواقف، اللهم آمين.
وهو قول حكيم، يدل على عدم الاستغناء عن المزح، كما يدل على ضرر الإفراط فيه وخير الأمور هو الوسط دائماً ، وهو نهج الإسلام وخَصيصته الكبرى ، ومناط فضل أمته على غيرها.
والله أعلم