الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وجامع الناس إلى يوم الدين، الحمد لله الواحد القهار، منَّ على عباده بسائر النعم، وقبل منهم اليسير من العمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين، أما بعد:
فبعد أن وفق الله - سبحانه وتعالى - حجاج بيت الله الحرام لأداء هذه الشعيرة العظيمة، وبعد أن أكملوا مناسكهم، فإنهم يرجعون إلى بلدانهم بما نالوا من الأجر والثواب العظيم, وبعد هذا فإنني أتساءل: كيف يكون حاله بعد الحج؟ وما الذي ينبغي عليه؟
أما حاله فلا شك أنه سيرجع بنفس مطمئنة, يرجع وقد حط ما أثقله من الذنوب، بإذن علام الغيوب, والذي ينبغي له ولغيره ممن منَّ الله عليه بأي عبادة أن يشكر الله - سبحانه وتعالى - على توفيقه لهذه العبادة، وأن يسأل الله - تعالى - قبولها، وأن يعلم أن توفيق الله - تبارك وتعالى - إياه لهذه العبادة نعمة يستحق - سبحانه وتعالى - الشكر عليها، فإذا شكر الله - تبارك وتعالى -، وسأل الله القبول؛ فإنه حريٌّ بأن يقبل، لأن الإنسان إذا وُفِّـق للدعاء فهو حريٌّ بالإجابة، وإذا وفق للعبادة فهو حري بالقبول، والله غني عن طاعاتنا وعباداتنا قال الله - تبارك وتعالى -: {وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}1، وقال الله - تبارك وتعالى -: {إن تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}2.
والمؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول فعن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}3، قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ((لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات))4.
وليحرص غاية الحرص أن يكون بعيداً عن الأعمال السيئة بعد أن مـَنَّ الله عليه بمحوها لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))5، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر))6، فالواجب على كل إنسان يمنُّ الله - تبارك وتعالى - عليه بفعل عبادة، أن يشكر الله على ذلك، وأن يسأله القبول, وقد شرع الاستغفار بعد إتمام الصلاة, وشرعت صدقة الفطر في آخر رمضان وغيرها.
وللطاعات علامات تظهر على أصحابها الذين تقبَّل الله منهم عباداتهم سواء كانت حجاً أو صلاة أو صياماً أو غيرها ومنها: انشراح الصدر، وسرور القلب، ونور الوجه، وعلامات الطاعات تظهر على بدن صاحبها، وعلى ظاهره وباطنه، ومن علامات قبول الحسنة إتباعها بحسنة أخرى، وهذا يدل على أن الله - تبارك وتعالى - قبل عمله الأول، ومنَّ عليه بعمل آخر، ورضي به عنه.
والواجب على المسلم بعد مغادرته الأماكن المقدسة, والرجوع إلى أهله؛ أن يعلم أنه مسؤول عن أناس من أهله وأولاده, وعلى كل من ولاه الله - تبارك وتعالى - رعية أن يقوم بحق هذه الرعية، وقد ثبت من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته))7, وعليه أن يقوم بتعليمهم وتأديبهم كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كما كان يأمر بذلك الوفود الذين يفدون إليه أن يرجعوا إلى أهليهم فيعلموهم ويؤدبوهم، لأن الإنسان مسؤول عن أهله يوم القيامة ممن ولاه الله - تبارك وتعالى - عليهم، وأعطاه الولاية، فهو مسؤول عن ذلك يوم القيامة؛ ويدل على هذا قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}8، فقرن الله - تعالى - الأهل بالنفس؛ وكما أن الإنسان مسؤول عن نفسه يحرص كل الحرص على ما ينفعها فإنه مسؤول عن أهله كذلك، ويجب عليه أن يحرص كل الحرص على أن يجلب لهم ما ينفعهم/ ويدفع عنهم بقدر ما يستطيع ما يضرهم.
وعليه أن يفتح صفحة جديدة مع ربه - عز وجل -، فيقلع عن الذنوب والمعاصي حتى يفوز برضا الله - تبارك وتعالى -.
هذا والله - تبارك وتعالى - أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، والحمد لله رب العالمين.