الحمد لله مدبر الشهور والأعوام ، ومصرف الليالي والأيام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للأنام (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام) .. أما بعد ،
أيها الأحبة من عائلتي الكريمة ..
قبل ألف وأربعمائة وإحدى وثلاثين سنة ، كانت أرض الحرمين على موعد مع حادثة عظيمة ، وقصة مثيرة ، نصر الله بها الدين وقلب بها الموازين ، وسأحاول هنا أن أوجز أنباء هذه القصة ، وإن في السيرة لخبراً ، وإن في الهجرة لعبراً ، وإن في دروسها لمذكراً ، فإليكم القصة ..
مكث (عليه الصلاة والسلام) ثلاثة عشر عاماً في مكة، وكانت سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء والإبتلاء، وبعد اشتداد الأذى ينام (عليه الصلاة والسلام) في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة، إنها طيبة الطيبة ..
وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته (عليه الصلاة والسلام) إلى المدينة، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة، اتفقوا فيه على ضرب الرسول ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل ..
وهنا ينزل جبريل فيخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بتلك المؤامرة، فيذهب الرسول إلى أبي بكر ويطلب منه أن يصحبه إلى المدينة ويهاجر معه، فبكى أبو بكر وقال :
طفح السرور عليَّ حتى أنني *** من عظم ما قد سرني أبكاني
يعود (صلى الله عليه وسلم) إلى بيته، ويعرف علياً بالأمانات التي عنده، ليأديها إلى أهلها ..
وفي ظلمة الليل يجتمع المجرمون ، ويطوقون منزله (عليه الصلاة والسلام) ، ويأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) علياً أن يبيت في فراشه ، وأن يغطي رأسه، يفتح النبي (عليه الصلاة والسلام) الباب .. يخترق صفوف المجرمين .. يمشي بين سيوفهم .. وهم مع هذا لا يرونه، ثم يأخذ من تراب الأرض ويذره على رؤوسهم ، وفي الصباح يكتشف المجرمون فشلهم، فيعودون وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ..
سمعت قريش بالخبر ، فجن جنونها، وثارت ثائرتها، فوضعت جميع طرق مكة تحت المراقبة، وأعلنت عن جائزة كبيرة قدرها مائة ناقة لمن يعيد محمداً أو أبا بكر حيين أو ميتين ..
اتجه الرسول وصاحبه جنوباً إلى غار ثور على طريق اليمن، ولما انتهيا إلى الغار رُوي أن أبا بكر دخل أولاً ثم دخل (صلى الله عليه وسلم) ونام في حجر أبي بكر ..
مكث (عليه الصلاة والسلام) في الغار ثلاثة أيام، ولما خمدت نار الطلب، جاءهما عبد الله بن أريقط في الموعد المحدد فارتحلوا وسلكوا الطريق الساحلي ..
وفي مشهد من مشاهد الحزن، يقف (عليه الصلاة والسلام) بالحزورة على مشارف مكة، ليلقي النظر الأخيرة على أطلال البلد الحبيب -بلد الطفولة والذكريات، فيخاطب مكة ويقول :
(أما والله إني لأعلم أحب بلاد الله إلي، وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منكِ ما خرجت) ..
وفي المدينة سمع الأنصار بخروجه (عليه الصلاة والسلام)، فكانوا لشدة تعظيمهم له، وفرحهم به، وشوقهم لرؤيته، يترقبون قدومه ليستقبلوه عند مدخل المدينة ..
وكان يوم وصوله يوماً مشهوداً، وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبّر المسلمون فرحاً بقدومه،
وتلقوه وحيوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مطيفين والسكينة تغشاه والوحي يتنزل عليه :
(( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ))
تلكم أيها الأحبة أحداث الهجرة، وفيها من الدروس والعبر الكثير، منها :
1. درس في الهجرة : هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، وهجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
2. درس في الصبر واليقين فهو طريق النصر والتمكين.
3. درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله.
4. درس في المعجزات الإلهية.
5. درس في الحب الذي تجسد في أبي بكر.
6. درس في التضحية والفداء.
7. درس في العبقرية والتخطيط واتخاذ الأسباب.
8. درس في الإخلاص.
9. درس في التاريخ الهجري : فإن مما يفخر به كل مسلم ما تميزت به بلاد الحرمين ومهبط الوحي ومهاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من اعتماد التاريخ الهجري النبوي، تاريخاً رسمياً لكافة مرافقها، نسأل الله أن يحفظها وجميع بيلاد المسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويعز دينه ويعلي كلمته.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..